السبت، 29 نوفمبر 2014

شعر - في خاطري ترقدين - عبد الله لحسايني


قراءة في ديوان "في خاطري ترقدين " للشاعر عبد الله لحسايني

بقلم الأستاذ – الزبير خياط
زايو 26 مارس 2011



  
حين نتحدث عن مشهد شعري عربي أو مغربي أو جهوي شرقي فإننا نطرح تساؤلات عديدة أهمها : هل تتشابه هذه المشاهد أم تتمايز ؟ هل هناك فعلا حساسية شعرية مهيمنة تستمد هيمنتها من قيمتها لا من عدد المنتمين إليها ؟ هل تخضع الحساسيات والخطابات الشعرية لصيرورة حتمية وصراع جدلي ينتهي بانبثاق حساسية من أخرى وفق مقولة نفي النفي ؟ هل يتشكل وعي الشاعر الفني داخل منظومة ؟ وهل له خلفيات فنية وفكرية تسنده وتؤطره لدرجة التصنيف ؟
في شعرنا الحديث منذ نهضته إلى خطابه الحداثي وما بعد الحداثي في المشرق والمغرب الأقصى والجهة الشرقية لا يمكن أن نتحدث عن قطيعة فنية بين الاتجاهات والخطابات السائدة . تتناسل خطابات ورؤى دون أن تحسم مع سابقاتها . لذلك تتعايش في هذا المشهد خطابات تقليدية تتمسك بالقصيدة العمودية وخطابات ذاتية تجد مرجعا لها في الرومانسية العربية وخطابات معاصرة بألوان شتى تجمعها القصيدة التفعيلية وتتعدد ولاءاتها للنزعة الخطابية أو الرمزية ..وخطابات ما بعد حداثية تنهض بها قصيدة النثر وأشكالها التجريبية . ورغم التحقيب الزمني التعاقبي لهذه الخطابات إلا أنها تتواجد كلها في الساحة الشعرية . الشعراء أنفسهم يتطورون عبر هذه الخطابات أو يتراجعون عنها أحيانا من خطاب حداثي أو ما بعد حداثي إلى خطاب تقليدي . المنابر نفسها تتشكل وتتغير موازين قوتها. فإذا كانت المنابر اللبنانية "كشعر" تملك قوة رمزية تأثيرية روجت من خلال لقصيدة النثر فإننا نرى الآن منابر ليجية تمتلك قوة مادية تعيد من لالها القصيدة التقليدية الرومانسية إلى ساحة الصراع الشعري .النقد والتنظير العربي منذ قرن تقريبا لم يؤسس إلا خطابين قويين مؤثرين الأول للاتجاهات الذاتية عبر كتابات الديوان ومجلة أبولو، والثاني لأدونيس خصوصا الذي شكل وعيا شعريا حداثيا وما بعد حداثي لا تزال الكتابات لحد الآن تقتات على مائدته..ونحن الآن على بعد نصف قرن من زمن الشعر والثابت والمتحول لم تنتج نظرية تتجاوز أدونيس . بل أنتجنا ما يتراجع عنها وهذا التراجع سجله أدونيس نفسه من خلال بعض قصائده .
"في خاطري ترقدين " ديوان يولد في بيت شعري في شرق المغرب متعدد الإخوة . يولد ليجد معه توجها تقليديا من خلال شعراء القصيدة العمودية ، وتوجها حداثيا من خلال القصيدة التفعيلية أو قصيدة النثر وبينهما توجهات ذاتية أو إيديولوجية أو محاولات لا ترقى لمستوى الشعر لكنها تتزاحم وتصرخ لأجل إثبات الوجود ، فأين نضع الديوان ؟
في هذه القراءة سنحاول مساءلته قصد تصنيفه من خلال تيماته ولغته الشعرية وإيقاعاته .
العنوان يعلن عن الذات /الوجدان ( خاطري ) والمرأة المخاطبة (ترقدين) . وهو عنوان يتميز بحرفيته وأحادية مدلوله الذي ينحصر في عشق الشاعر للمرأة. إنه الموضوع الأثير لدي التيار الوجداني في شعرنا الحديث . ويتأكد حضور تيمة المرأة والحب من خلال الاستهلال "أحسنوا للعاشق الولهان " ومن خلال عناوين القصائد : حسن يفور ، الحب البديل، سلوني عن محياها، صيد السهام ، وابتسمتِ، تمنع ، كفى هجرا ، في خاطري ترقدين .. وعلى غرار الرومانسيين العرب يرتبط الحب بالمعاناة والألم من خلال "قصة ألم" و"القلب مات "ويرتبط بالجمال والخيال من خلال قصيدة : "سحر الخيال".
إن شجرة النسب عند لحسايني تمتد إلى الشعر الغزلي القديم :
أنادي جميلا عساه ** يواسيني أو يؤازر
قضى العمر دون مناه ** فذاق أليم المصائر
وإني الدرب أمضي ** ولكنني لا أجاهر
بل إن المعاني القديمة تتسلل إلى القصائد فعيون الحبيبة سهام تصطاد قلب الشاعر :
رمتني بسهمين من قوسها ** فحاجبها زاخر بالنبال
وجمالها ظاهر على محياها منير كالثريا وقدها يميل كالغصن في دلاله :
السحن زاد للمحيا والجمال
متأصل مثل الثريا
مثل غصن مال ميلا في دلال
لكن الشاعر يتجاوز هذه الدلالات الوصفية القديمة نحو دلالات وجدانية تتعمد بالمعاناة وتتطهر بالمكابدة تماما كما فعل الشعراء الوجدانيون حديثانقرأ :
وأعشق هجرك لي ، وعذابي ، ومر انتظاري
وما قيل أو لم يُقل من كلام
سأحفظ عهدي ، وأبقى لوجدي
فذلك حظي، اشتياق وهجر
وأقدار تجري بعكس المرام.
إن خيط المعاناة والألم جراء الحب وقسوة الحبيبة وضعف الشاعر أمام أسلحة أنوثتها يضيع في قصيدتين هما وابتسمتِ حيث تُلعن الحبيبة وتطرد من قلب الشاعر و"كفى هجرا" المهداة لمدينة بركان وهي تبدوا نشازا بين قصائد هذه المجموعة.
تبدو ذاتية الديوان بكائية انكفائية ، تجد مرجعها في موضوعات الشعر الذاتي العربي الذي هيم في بدايات القرن العشرين ولا يزال مستمرا الى يومنا في كتابات مشرقية ومغربية من بينها الجهة الشرقية .
هذا الانتماء للتيار الذاتي يظهر كذلك في لغة الشاعر التي يطغى عليها المعجم الوجداني :
العاشق الولهاني – الحب – المشاعر – القلب – الهوى – الخواطر – الغرام الذكرى الشوق الخيال الحلم ...
ومعجم الغزل بالمرأة :
حسن المُحيّا ، الجمال ، الدلال ، مُقلتها ، قاتلة القلوب ، تلعثمت ، شمسي وقمري ، تناياها ، الفاتنات ، الصبايا
ومعجم الانكسار في الحب :
ثائه ، يذوب ، مثخَنا ، يعصف بي ، ألم ، أعاني ، الهجر ، الكسر ، وحيد ، أردَت فؤادي ، حُزني ، القلب مات ، تكويه ..
هذه الحقول المعجمية تتعالق لتنتج دلالة انكسار الشاعر أمام حب المرأة وأنوثتها وما يتبعها من تقدير لها وتسليم بقدرتها على خلق فيض المشاعر ، وتفجير القرائح وبعث الإحساس بالجمال . غير أن عبارات سقطت في الديوان تتعارض مع هذا الحس العاطفي الرفيع ، كقصيدة "وحلفتُ بالقسم اليمين " حيث تتحول الأنثى إلى كائن مرادف للسم والتفاهة ..
-"سموم الفاتنات "، "هن السراب" ...
وفي قصيدة : "وابتسمتِ" – وقاحتكِ ، أنتِ لاشيء حياتي . وهو حس يجدر بالشاعر أن يتفاداه انسجاما مع قيم المساواة الإنسانية .
اللغة الشعرية عند الشاعر لحسايني لاتتوغل في الرمزي والاحتمالي ولا تمارس عنفا على المتلقي . إنها لغة مهادنة رقيقة حالمة .تُؤخذ على حرفيتها العاطفية ، فالمرأة امرأة والقلب قلب والعشق عشق ٌ. إنها نفس الدلالات التي أنتجها الغزل العذري القديم .وأعاد الاتجاه الوجداني إنتاجها وصياغتها حديثا ولا تتحول هذه المفردات عن حرفيتها إلا حين تدخل في إطار التصوير البياني القائم على المشابهة . حيث يجمع الشاعر بين النار والجمر وعاطفة الحب .وبين مُحيّا الحبيبة المنير ، ونور الثريا وبين قدها الممشوق والغصن وبين عينيها والسهام . وبين الإصابة بالحب والقتل .
إنها مشابهات استعارية تترسم خطى الصورة الوجدانية التقليدية قبل أن تتحول بفعل الحداثة الشعرية إلى الصورة الرمز حسب تعبير أدونيس .
يتأكد الإنتماء للتيار الذاتي الوجداني في هذه المجموعة من خلال المستوى الإيقاعي العروضي ، فهذا الاتجاه حافظ على القصيدة العمودية واجتهد في النظم على البحور المجزوءة وتنويع الأوزان والقوافي في النص الواحد وهو ما نلاحظه على قصائد هذه المجموعة .
فقد نظم الشاعر ثمانية من قصائد الديوان الخمس عشرة على أوزان مجزوءة . وزاوج بين وزنين مختلفين في أربع قصائد ، ونوّع القافية في إحدى عشر . وتوزعت الأوزان بين الكامل والرمل ومجزوءة الوافر والمتقارب تاما ومجزوء الرجز . ووزن يمكن اعتباره من المجتث في قصيدة "تمنُّع".
لقد بقي الشاعر في إطار القصيدة العمودية كما طورها الاتجاه الوجداني الذاتي محتفظا بسيميترية البيت ، ورغم ما يلاحظ من محاولات لكسرها بكتابة أبيات مشطورة في قصيدة "سلوني عن مُحيّاها "و هي من مجزوء الوافر . أو تجاوز عدد التفعيلات المعروفة في البيت التقليدي مثل قصيدة "صيد السهام" وهي من مجزوء المتقارب وتامّه ، إذ نقرأ في البيت التالي تسع تفعيلات :
لأني / أرى أن / نها لا / تراني / واني /سواي / لديها / وغيري / تراني.
وفي قصيدة "القلب مات" نقرأ في سطر تفعيلة من الكامل :
فالقلب مات .
ثم تفعيلتين : وجناية ال / حب اللعين /
ثم ثلاث :
تلك اللتي /قد أغرقت / ني في السبات .
إن هذا الخروج المحتشم عن قواعد القصيدة العمودية لا يعني التوجه نحو التفعيلة . لأن البيت الشعري عند لحسايني لا يزال محكوما بالوقفة التامة والجملة القصيرة.
كما أن هذه الاستثناءات القليلة تؤكد القاعدة ولا تنفيها .
ونحن في إطار المستوى الإيقاعي لابد أن نشير إلى أن الشاعر أحيانا يمزج بين الأوزان كقصيدة القلب مات ، التي تبدأ بالرمل وتنتهي بالكامل ، رغم ما يشوبهما من زحافات مستكرهة . وأحيانا يجد نفسه في وزن لم يتوقع ، مثل قصيدة "كفى هجرا " .
فالشطر الأول من الطويل والقصيدة من الكامل ، وأحيانا يضطرب الوزن في قصيدة تبدو سليمة ، كالبيت الأول من قصيدة القلب مات . وقد يحتاج بيت إلى تدخل جراحي بسيط لا يجمع بين استقامة الوزن واستقامة النحو مثل قوله في قصيدة ، في اطري ترقدين ، وهي من المتقارب :
سليه عن الحب كي تدركين
فالشاعر كسر النحو ليرضي الوزن ، إذ الصواب كي تدركي لأن المضارع ينصب هنا بحذف النون ، وإذا حُذفت اختل الوزن وغابت القافية . لذلك كان عليه أن يضع بدل "كي" العاملة بالنصب "قد " غير العاملة فيقول : سليه عن الحب قد تدركين ** بأنك في خاطري ترقدين.
وهذه تفاصيل صغيرة بإمكان الشاعر تجاوزها في ما يلي من أعمال . شريطة أن يستأنس بأذنه الموسيقية أكثر من الاستئناس بقواعد العروض.
وبعد نهد نهئ الشاعر عبد الله لحسايني على صدور ديوانه الأول ، ونتمنى له التألق في مستقبل الأيام ، لأنه شاعر ذو إمكانات قابلة للصقل والتجويد . ونتمنى أن يقتحم برؤياه حداثة الكتابة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أضف تعليقا

المواضيع